-1-
لولا الترجمة لما حدث تواصل حضاري وثقافي كبير منذ بداية البشرية إلى اليوم. فالترجمة كانت و لا تزال هي المحرك الأساسي للحوار و التثاقف و التعارف و التطوير و الانتقال بالإنسان من وضع إلى وضع، و من توصيف إلى توصيف، و من مرحلة إلى مرحلة.
لكن الرأي السائد و التمثل المترسخ بعيد عن هذا الطرح للأسف الشديد. فلأمر ما نكاد لا نرى اعترافا من قبل المؤرخين بالدور الحاسم للترجمة في الكثير من الأحداث و التفاعلات و والتحولات التاريخية و الاجتماعية و الثقافية، كما لا يشار إليها إلا كوسيلة " تقنية" أو " مساعدة لوجستية" و بشكل عابر و مختزل. و تولدت لدى الناس من خلال بعض النصوص الأدبية و التاريخية و بعض الأفلام و المسلسلات صورة نمطية للمترجم الفوري القابع بين "الأبطال" . انه مجرد كومبارس ليست له قيمة تاريخية او فنية.
-2-
يمكن القول إننا إزاء مترجمين صامتين يوجدون في ظل أبطال. قد لا نعرف لهم اسما او عنوانا أو هوية. يقفون أو يجلسون بين المتحاورين. لا يتكلمون إلا لترجمة ما يتفوهون به.ثم يمضون إلى حال سبيلهم. لا يذكر السيناريو لا من أين أتوا و لا إلى أي منقلب سينقلبون...كتب عليهم أن يظلوا كومبارس و كفى.
في بعض النصوص الأدبية قد يعاد إنتاج و استعادة هذا التمثيل التنقيصي، كما قد نكون أمام شخصيات تقوم بمزاولة الترجمة كمهنة او في إطار صحافي. غير أن الأحداث لا تجعل من الترجمة عنصرا محركا و مؤثرا في الرواية او المسرحية...هي مهنة أو شغل. أما الرهانات و الحقيقية فتكون ذات أبعاد عاطفية أو تاريخية أو سياسية...
في التغطيات الإخبارية للاستقبالات الرسمية و اللقاءات الثنائية بين الملوك وا لرؤساء و الوزراء، يجلس آو يقف الترجمان، دون أن تلتقطه لكاميرا لشخصه. لا يدخل الكادر إلا لأنه يوجد بينهم أو بجانبهم. انه نكرة لا يستحق التعريف أو الزوم بالكاميرا. حتى في الحالات التي يتكلم فيها لا نسمع كلامه إلا اضطرارا، خاصة في الندوات الصحافية التي تغيب فيها الترجمة الفورية بواسطة مترجمين عن بعد في " مكاتبهم" المغلقة. غير أن فورة القنوات الإخبارية العربية ردت قليلا من الاعتبار للمترجمين الفوريين، حيث نسمع أصواتهم في الجزيرة و العربية مثلا، من دون أن نرى وجوههم.
-3-
مرد هذا الوضع الى المقدمات الاولى التي تحكم تمثل الناس،علماء كانوا او مجرد اناس "عاديين" للترجمة و المترجم و الترجما ن. يتم النظر اليها كنقل حرفي لغوي من لغة الى لغة و " نبينا عليه السلام"، كما نقول في دراجتنا البليغة. اما المترجم ( للنصوص المكتوبة او المطبوعة...) و الترجمان المكلف بالترجمة الشفوية الفورية، فهما مجرد "ناقلين" يفترض فيهما الأمانة و التواري خلف المشهد- الأبطال- الكاتب "الأصلي". يجب عليهما ان يتركا للساسة و القادة و الفنانين..و الكتاب " الأصليين" شرف الاستحواذ على كل شيء. لا يتكلم الترجمان و لا يكتب المترجم إلا لينقلا و يصمتا.
-4-
كانت الترجمة دائما ممرا إجباريا نحو الآخر، و أداة لا غنى عنها للتواصل بين الأفراد و الجماعات من ثقافات و لغات مختلفة. من ثمة، لم يكن للتواصل البشري ان " يتواصل" عبر التاريخ، و لا للمعارف الإنسانية أن تصمد أمام النكبات و جنون و تطرف البشر لولا الترجمة و المترجمين. ذلك أنها ساهمت بشكل حاسم في تعزيز اللحمة البشرية و تشكيل " الإنسان الكوني" قبل أن يصبح مفهوما رائجا في ظل العولمة الحالية.
-5-
لا بد من إعادة كتابة تاريخ عدد من الحقب و الفترات، و إعادة قراءة الأحداث و التحولات من منظور المساهمة الحاسمة للترجمة و تيسيرها التواصل و التثاقف الذي أثمرته. لا مناص من الرجوع الى النصوص الأدبية و المذكرات و اليوميات و الشهادات...لرد الاعتبار التاريخي للترجمة و المترجم و الترجمان.لولاها و لولاهم لقامت حروب ضروس أخرى.... و لما توقفت حروب كانت قائمة، هذا على سبيل المثال لا الحصر.
الترجمة فاعل تاريخي ساهم في كتابة التاريخ. الترجمة سر التواصل الإنساني بين الإفراد و تسهيل التفاهم بين الشعوب. يلزم الكثير من الوقت و الجهد للتدليل بالوثائق و المستندات على " بطولة " الترجمة و المترجم و الترجمان.